"لا يمكن أنساها على الإطلاق، لقد كانت أياما قاسية بحق على فتاة لما تتجاوز الثانية والعشرين من عمرها، لقد فقدت فيها والدتى العزيزة " توت بنت سيد الأمين" وثلاثة من أخوتى الصغار ( سيداتى ولد الداه / البكاي ولد الداه / أمنة بنت الداه) ، وأولادى الثلاثة ( محمد الشيخ ولد باب / أمبيقيه بنت باب/ محمد ولد باب) خلال بضعة أيام فقط بفعل مرض الحصباء الذى ضرب المنطقة فجأة، لكن بفضل الله ومنه تجاوزنا الصدمة وتقاسمنا حلو العيش ومره مع أطيب جيرة وأنبل إنسان، كان لنا بمثابة الأم والزوج والأخ والوالد".
بهذه الكلمات المدفونة فى الدموع أختصرت الوالدة "ميجه بنت النان" ذكرياتها العالقة عن الخطوات الأولى لتأسيس أول تجمع بمنطقة أوكار، وتحديدا عند منطقة آجوير ( 110 كلم شمال شرق مدينة لعيون )، بعد فترة من الانتجاع بين " القاعه " و" التيار" اثر انهيار تجربة التأسيس الأولى بمنطقة تيمزين بالتزامن مع نهاية الحرب العالمية الثانية ( أزمان أولاد البح).
كانت عدة أسر قد نزحت نهاية الصيف من منطقة أوكار باتجاه "محرد بوكوتي" جنوب " الهيات" و شمال " عين أمخلطه " ( اعوينات أزبل حاليا) ، بعد ورود معلومات شبه مؤكدة عن تهاطل بعض الأمطار وبداية تباشير فصل الخريف. ولما وصل طلائع البدو الرحل إلى منطقة " آجوير" أخبرنا الوالد "محمدو ولد باب " بأنه قرر التوقف عن المسير وغير رأيه بشأن البادية وحياة الترحال، معلنا عزمه تأسيس قرية بالمنطقة، ووضع حد لأجواء التنقل بين الشمال والجنوب.
تقول الوالدة " ميجه بنت النان" وهي تستعيد أجواء تلك المرحلة وظروف التأسيس القاسية " لقد كانت فكرة صادمة فى البداية لمن لم يتعود مغادرة الحي (لفريك) ولم يجرب الغربة عن محيطه الاجتماعى ( أزمان أولاد البح)، ولم تستهويه طقوس الاستقرار والتمدن . لقد غادر الجميع باتجاه المراعى المذكورة وأنخنا بمنطقة صحراوية قاسية فى انتظار ميلاد تجمع قروى جديد نجهل شكله ومآله. كانت الآبار بالمنطقة شبه معدومة، والشراب يتم جلبه عبر حاويات من الجلود (القرب) على ظهور جمال هزل من أقرب نقطة لمكان التجمع المنتظر (أم الحياظ 22 كلم) ، بينما يصارع " الداه ولد والودانى - عليه رحمة الله- (توفي ١٩٨٦) و" أحيمد" أطال الله عمره (مقيم بضواحى كوبنى حاليا) من أجل تأمين المرعى لقطيع من الماعز والجمال ، فذلك هو كل ماتمتلكه الأسر الثلاثة، أو نواة القرية الجديدة (آجوير).
لم يتردد الوالد " الداه ولد أحمد عبدى" فى الموافقة على الفكرة بعد عرضها عليه، كما أقامت بعض الأسر إلى جانبنا بضعة أيام من أجل معرفة القرار النهائى قبل تركنا للمجهول ، وهي أيام كانت كافية بالفعل للشروع فى وضع الحجر الأساس للتجمع الوليد ؛ البدء فى حفر البئر (عين آجوير) ، والشروع فى تأسيس المزرعة ( أحريثت آجوير ) والعمل من أجل بناء أول عريش بالمنطقة للإقامة فيه بدل الخيام".
وتضيف ميجه بنت النان " عرسنا فى البداية عند " قطع أدويويره " شمال " ملزم لحجار" فى انتظار بداية الخريف، كانت درجة الحرارة جد عالية، وأجواء الانتجاع تفرض نفسها على المقيم قبل المغادر "أجواء العارظ" ، وكان الصيد التقليدى ( الحبارى/ لحبش/ لقطه) زادنا الأبرز فى مواجهة الواقع الجديد وتعقيده ؛ قساوة الظروف الطبيعية (أطاييح أرشق)، وصعوبة الحال ( نقص المواد الغذائية وندرة المياه)".
وتسترجع الوالدة تلك اللحظات قائلة " كانت بداية صعبة وجميلة فى آن واحد، لكن يوم الحادى عشر لبيظ لول ١٩٦٩ كانت نقطة تحول فاصلة فى حياتى، لقد فقدت فيه الوالدة والصديقة فى نفس الوقت "توت بنت سيد الأمين (35 سنة) ، وأخوتى الثلاثة، وأبنائى الثلاثة فى أيام متتالية، بعدما ضربتنا الحصباء ( بوحيمرون) ، فى منطقة لاطبيب فيها، ولاقدرة لنا على الرحيل منها إلى أي جهة قد تسعف أي مريض، لقد كانت لعيون أقرب نقطة يوجد فيها طبيب، والتنقل بضحايا الأمراض المعدية كان من الأمور المحظورة بفعل محدودية الطواقم الطبية وصعوبة تأمين النقل والمكان الآمن للمصابين بها.
لم تكن أسرتنا الوحيدة التى تضررت من الوباء الذى ضرب الوافدين من منطقة أوكار فجأة بفعل ارتفاع درجة الحرارة وتغير المناخ، لكن جراحنا كانت الأعمق، لقد غادرت "توت بنت سيد الأمين" عليها رحمة الله الدنيا وأسلمت الروح إلى باريها، وتركتنى وحيدة فى مخيم خيم عليه الحزن من كل مكان، وأنهار أو كاد أول تجمع قروى خططنا له، وأقمنا فيه، رحلت الأم والأخوة والأبناء، لم أشعر بفقدان الأولاد، بفعل هول الصدمة الأولى، وكنت أتردد على قبرها خلال الأيام الأولى، لأواجه الفراغ الذى خلفته، وأتذكر ابتسامتها الدائمة وأحاديثها قبل الرحيل، وأقول فى نفسى هل حقا كتب علينا الفراق إلى غير رجعة؟".
لم يستسلم الوالد محمدو ولد باب - أطال الله عمره - للفراغ الذى حل بالتجمع، وأصر على استمرار الفكرة ، ومن بين الظروف القاسية كان ميلاد تجمع قروى جديد.
لقد أستوى الحرث على سوقه مع بداية فصل الخريف، ووهبت " عين آجوير" نقطة المياه العذبة الوحيدة بالمنطقة الواقعة بين أكدرنيت جنوبا (25 كلم شمال اعوينات أزبل و وبوبريكه 90 كلم شمال أكدرنيت) ، وتوقفت حركة " أحيمد" يوميا نحو " أم الحياظ (22 كلم) لجلب مياه الشرب، وأختار آخرون الاستقرار إلى جانب الأسرة فى موطنها الجديد، ودبت الحياة من جديد داخل تجمع كاد ينهار بفعل قسوة الواقع وآثار الوباء الذى لايزال إلى اليوم يحصد ضحاياه بالمنطقة دون أي تدخل حكومى !.
تحول الجميع لاحقا إلى تجمع قروى مشترك بين أبناء المجموعة بمنطقة (أكدرنيت ) بعدما نضجت فكرة الاستقرار لدى الجميع، بيد أن "آجوير" ظل بأشجاره العتيقة ومزرعته المشهورة، وسده الذى صنعته سواعد الرجال ، محطة بارزة فى مسار مجتمع نحو الانتقال من الريف إلى أجواء المدينة، ومحاولة جادة لكبح جماح الطبيعة، وفرض الاستقرار فى بيئة صحراوية متحركة تحرك رمال "بارغيوه"و"الزارية" و"توشيت البيظه" وأخواتها.
ورغم أجواء الاستقرار بالمنطقة، والحاجة الملحة إلى مركز صحى يرمم جراح السنين القاسية، لم يتمكن سكان المنطقة من الحصول على أكثر من ترخيص نقطة صحية، تم افتتاحها أيام وزير الصحة السابق أحمد ولد جلفون والأمين العام السابق أحمد ولد أج، لكنها لاتزال من دون مقر أو تجهيز، ولما تحتضن أي لقاح من أي نوع بفعل ضعف التجهيز، وغياب الرؤية الناظمة لقطاع الصحة، رغم الأمراض التى تفتك سنويا بسكان الريف وخصوصا منطقة أوكار، وفى مقدمتها الحصباء والملاريا والسل الرؤى وأمراض الكبد.
(*) فقدت الأسرة لاحقا الأخت العزيزة " أنجاي بنت محندو ولد باب" بفعل مرض الحصباء ذاته ليرتفع ضحاياه إلى ثمانية أفراد من عائلة واحدة.